عن الحرية وشؤون الجماعة ورئاسة الخير العام

نعمة افرام – النهار  18 كانون الأول 2015

تُنهي الإنسانيّة العقْد الثاني من الألفيّة الثالثة، ولا يزال البحث قائماً في أفضل الطُّرق لإدارة شؤون الأفراد والمجتمعات والدول.

ولطالما شهد تاريخنا الطويل في سياق مواكبته هذا البحث، الكثير من التجارب المُرّة. فكم من المراحل تطعَّمت بالآلام، وكم من المحطّات تعمَّدت بالدم والمآسي والهجرة. ولعلَّ ما شهدته أرضنا من مناحٍ تراجيديّةٍ، لم يكن غائباً عن الدول في محيطنا العربي، وكل بدوره. فكلنا كنّا ولم نزل في الهم سواء.

ففي حين طمحت الإنسانيّة إلى تفاعلٍ بنّاء بين ثابتَتين: الحريّة والكرامة الفرديّة من جهة، وتغليب مصلحة الجماعة ووحْدة القرار على مصالح الأفراد من جهة ثانية، تحوَّل الجدل بينهما في لبنان، ومن حولنا، إلى حفلٍ عبثيٍّ كريه ومميت، وإلى تفسُّخات وحروب طاحنة، ويا للأسف.

في أساسِ الثابتة الأولى، تتجلّى الطبيعة البشريّة، في توقها الجينيِّ إلى الحرّية وإثبات الذات وتفجيرِ الطاقات، بِما طبعه الله في النفْس البشرية من خصالٍ ومواهب.

أمّا الثانية، فتُبرز كيف أنّ القدرة الفرديّة لا تكفي وحدها لتحقيق الطموحات، بل تستقي أفضل السبل لتحقيق حاجات المجموعة وإنتاجيّتها وخيرِها العامّ، من حكمة الحياة المتوارثة عن الأجيال المتعاقبة... فقط في وحْدة الجماعة وتعاضدها هناك القوّة المطلوبة.

في وطننا، وعندما نضيّع البوصلة، وعندما تحجب الغشاوة الكثيفة عن العين سواء السبيل، لا بدّ من العودة الى الأسس الأولى في تكوين المجتمعات السليمة والمنتجة، لنستقي منها صواب السِّراط ونقاء البصيرة.

فما يصيبنا اليوم من تعطيلٍ وشللٍ، إنما هو نتيجةُ خللٍ بِنيويِّ في مقاربتنا لهاتَين الثابتَتين. ففي فهْمِ أهلنا الخاطئ لمفهوم الحريّة والكرامة الفردية، كان الوقوع في أسْر الطائفيّة والمذْهبيّة. وفي ممارساتٍ منحرفةٍ لأهلنا في إدارة شؤون الوطن، كان الوقوع في شرك السقوط العظيم.

إنّ في الدخول إلى عالم المواطنة نموًّا نوعيًّا، وترجمة واضحة لتطوّر طبيعيّ ترقى له المجتمعات من خلال وعيها وتجاربِها. في لبنان، لا تنقصنا التجارب. لقد كنّا حقلاً ومختَبرًا لها بكلِّ سلبيّاتها. لكن، وياللأسف فاتنا الوعي المطلوب لاستنتاج الحكم واستنباط العبر. فكفى.

إنّنا في حاجة اليوم إلى عقْدٍ وطنيٍّ مجدَّد يحمي الفرد والضعيف. إننا في حاجة إلى نظام يستوعب الصدمات ويستنبط الطاقات في تطويرٍ مستدام. نظام يحقِّق نموًّا اقتصاديًّا، ويحسِّن مستوى المعيشة ويوزّع الثروة الوطنيّة بعدالة بنّاءة. نظام فيه إنماء متوازن ولامركزيّةٌ خلّاقة.

وعمليًّا، إذا أردنا مجتمعًا فاسدًا، فلنستمرّ في تحفيز الفساد كما نحن عليه اليوم. وإذا ارتضينا مجتمعًا كاذبًا كالذي نُطالعه في يوميّاتِنا، فلنحفِّز الكَذِب. أمّا إذا أردنا مجتمعًا وطنيًّا، فعلينا أن نحفِّزَ مفهوم المواطنة. إذْ لا يمكن أن نجني من العُلَّيق تينًا.

ويبقى السؤال: أنُريد فعلاً تيناً لا عُليقاً؟

التين لا يمكن أن يكون في ظلِّ نظامٍ تظلِّله المحسوبيّة. التين لا يمكن أن يكون أيضًا، عندما نرضى بإدارةٍ بيروقراطيّةٍ عقيمة. التين لا يمكن أن يكون أيضاً وأيضاً، حين لا نستنبط قانوناً انتخابيّاً، يفُكُّ الطَّوق أمام إنتاج أنْظومةٍ مُتكاملةٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّة وسياسيّة حرّةٍ وغير مرتهَنة.

بصراحةٍ، علينا تطوير ميثاقنا وصيغتنا. انّ العيش معاً لم يعد كافياً. فالعيش العقيم هو موتٌ سريريّ محتّم، والعيش المشترَك المنتج هو الميثاق الجديد. وبصراحةٍ أكبر، لقد آنَ الأوان لصياغة عقْدٍ مجدَّدٍ ينقلنا إلى ما بعد التعايش وإلى ما بعد الميثاقيّة. عقدٌ ينقُلنا إلى رحاب الدولة المدنيّة القادرة والمبدعة، المبنيّة الى جانب الإنتاجية، على ثابتة حقِّ الفرْد وحريّته، وحقِّ وواجب الحفاظ على الأقلّيات وخصوصيّاتِها. هكذا، تسمح الدولةُ المدنيّة بالتفاعل والتجانس بين الثابتتَين، من دون أن تتسبَّب بالشلل والتعطيل.

وأمام هذا الغموضِ في الاستحقاقِ الرئاسيّ، هل كثير أن نطمح إلى رئاسةٍ تكسر حلْقة الجمود العام، وتعيد الدورة الديموقراطيّة إلى مساراتها الطبيعيّة، وتفتح باب المعالجات الجوهرية في إعادة بناء مؤسّساتِ الدولة وإداراتها؟

هل كثير أن نطمح إلى انتخاب رئيسٍ يتفاعل ولا يتنافس مع الآخرين؟ رئيس مواطن. رئيس رؤيوي، يستنبط حلولاً واقعية لشتّى المشاكل الصغيرة منها والكبيرة. رئيس يعمل بنيوياً على تطوير الأُنظومة اللبنانية لتصبح منتجة، في دولةٍ تحفظ الحرِّيات والكرامات الفرديّة وتكون في خدمة الخير العام.

تواصــــــــل معنا