الأمن القومي اللبناني ومواعيد التاريخ

نعمة افرام – النهار  3 نيسان 2015

 شهدت أوروبا على امتداد تاريخها الطويل، صراعات دينية واتنية وقوميّة. واندلعت على أراضيها حروب قاسية بين امبراطورياتها المتناحرة، خلفت الكثير الكثير من الموت والدمار.

ضمن هذا السياق الملتهب، شكلت سويسرا علامة فارقة واستثنائية. فعلى الرغم من التنوع الديني في مكوناتها الحضارية المتعددة، استطاعت ان تحيّد ذاتها، وان تتجاوز حروبا طائفية أوروبية عصفت في جوارها ما بين عام 1618 وعام 1640. وعلى الرغم من تعدد اللغات والقوميات في نسيجها المجتمعي، تفادت صراع المحاور وتحاشت الحروب الالمانية – الفرنسية عام 1880، والحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.

في المقلب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، وفي التوقيت نفسه للأحداث الاوروبية، عقد ثائرون مسيحيون ودروز وشيعة وسنة مؤتمرا في انطلياس عام 1840. وأقسموا اليمين على ان يظلوا يدا واحدة وتعاهدوا على ان يحاربوا معا فيكون لهم استقلالهم او يموتوا. فعرفت حركتهم هذه بالعامية ودخلت تاريخ الوطن.

هو ربيع لم يزهر يومها، اذ سرعان ما قسمت البلاد الى قائمقاميتين، عام 1842. تسبب ذلك بتوسيع رقعة الخلاف بين الطوائف، حتى مذبحة عام 1860. وبعد عام واحد من الفتنة الطائفية، اتفقت دول أوروبية وتركيا، على اعتبار لبنان ولاية متصرفية مستقلة، وفق ما عُرف بنظام البروتوكول. ورغم الاستقرار النسبي الذي شهده الوطن مع هذا النظام، لم ينجح اللبنانيون في نسج عقد وطني يقيهم سياسات المحاور ومصالح الدول، ولا في ردم الهوة بينهم.

بنهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918، اشتد الجدال بين القوميين اللبنانيين والقوميين العرب في شأن هوية لبنان وحدوده. أعلن الانتداب الفرنسي قيام دولة لبنان الكبير، لتتخذ هذه الدولة وجه الجمهورية اللبنانية عام 1926. بعد الاستقلال عام 1943، وضع اللبنانيون الميثاق والصيغة في مشروع حضاري التقوا فيه على ثوابت الحرية، والمساواة في المشاركة، وحفظ التعددية. تخلى بعضهم عن حلم الوحدة مع سوريا مقابل قبول بعضهم الآخر الهوية الوطنية العربية. رغم ذلك، فشلت البلاد في بناء مناعة وطنية تجاه المتغيرات من حولها. فأدى قيام دولة اسرائيل بقوة الاغتصاب على ارض فلسطين وتدفق اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان، الى انفتاح الجرح بين اللبنانيين على صدى تداعيات كثيرة، بعضها سياسي محلي واقليمي ودولي، وبعضها اجتماعي – اقتصادي.

في ظل هذا المسار الانحداري، وبعد ازمة عام 1958، ورغم صعود الناصرية اوائل الستينات وتضارب اهواء اللبنانيين تجاهها، اتت تجربة الرئيس فؤاد شهاب علامة فارقة في تاريخ لبنان. فاستطاع بحكمته استيعاب التحديات الداخلية والخارجية، والتأسيس لبناء دولة حديثة ومؤسسات منتجة، سرعان ما اختفت مفاعيلها مع توقيع "اتفاق القاهرة" الذي شرّع حرية العمل الفدائي الفلسطيني في جنوب لبنان.

سقط لبنان في امتحان المناعة الداخلية، فانفتحت عليه ابواب الجحيم. هكذا اندلعت حرب دامية عام 1975، شاركت فيها المنظمات الفلسطينية بقوة. فغرق الكل في ليل الحرب وظلمته الدامسة.

تراكمت الانعكاسات السلبية للاحداث على الوطن من يومها. ومنذ عام 1976... وحتى اليوم كانت الجمهورية تحترق، الى ان وصلت الى الشلل التام والى حافة الانهيار الكبير. لم يعرف لبنان ان يحصّن نفسه وان يحفظ مصالحه وامنه واقتصاده، ولا ان يمتّن عقده الوطني، لتكون ترجمته تطويرا لحياة المواطنين وتحقيقا لرفاهيتهم وسعادتهم. اننا على عكس سويسرا، ضيّعنا الفرص التاريخية لتأسيس مفهوم عميق ومتكامل لأمننا القومي، فهل نستعيد مواعيد التاريخ وننجح اليوم؟!

ما هو واضح، ان لبنان ما عاد يحتمل التباسات في مفاهيم تاسيسية غائبة حتى عن مستوى الرؤية، والاداء، والتقييم. وما عاد يحتمل استمرار الخلل البنيوي المتمادي في نظامه التشغيلي والاقتصادي والاجتماعي، حيث ادارات الدولة معطلة، والمواعيد الدستورية مستباحة، والأبعاد الاقتصادية افتراضية، والمسائل الاجتماعية زبائنية ريعية. وما عاد يحتمل اللاتوازن الذي يحكم العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني. فالقطاع العام مدمّر، والقطاع الخاص مستنزف، والمجتمع المدني مشتت. وما عاد يحتمل ان تأسره مسائل اقليمية ودولية، لا علاقة لمصلحته الوطنية العليا بها.

المطلوب تغيير هذا الواقع والدخول في زمن جديد، نعالج فيه هذه المواضيع بعمق. فهذا كله يؤسس لمفهوم الامن القومي اللبناني، ويؤمن للبنان جهاز مناعة قادراً وفعالاً، من دونه يكون أمننا القومي مجتزأ او مرتهنا.

واذا كان يجمعنا لبنان الرسالة والعيش معا، وذلك الطموح الى لبنان مجدد على قواعد الاستقرار والنمو الاقتصادي الجامع في عيش مشترك منتج بدلاً من عيش مشترك عقيم، فعلينا ان نبحث بعمق وجدية في اشكالات امننا القومي وفي مفهومنا لمكوناته الواسعة، في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والاغترابية والسياسية والعسكرية وايديولوجية فكرة لبنان.

تأخرنا كثيرا في تجسيد مفهوم كهذا. وقد آن اوان بناء امننا القومي وفق معادلة لبنانية صرف، بشجاعة وواقعية واحتراف، لنستعيد مواعيد لبنان مع التاريخ.

تواصــــــــل معنا