عن ميشال إده والمشعل

الصفحة الاولى – النهار 9 آذار 2016

    "أود أن نلتقي على الغداء ونتكلم". قالها لي بخفر وجدية وهو يشد على يدي.

كان ذلك في أشد الأيام ألماً وأكثرها تهيباً، وأنا في خضم وداعي والدي في الخامس من أيار من العام 2006.

تعجبي كان كبيراً وكذلك تساؤلاتي. ما عساه يريد الرجل؟ وهل ممكن مثل هذا الطلب في مجلس عزاء؟!

يوم التقيته، وقبل دخوله في أجواء من صفاء التعزية والود العائلي، أذكر أن قال بالمباشر:" لطالما تباحثت مع والدك في مشروع عزيز جداً عليه، في كيفية استنهاض الطاقات في الانتشار. لقد ارتأينا إنشاء مؤسسة يتمحور دورها في تعزيز أواصر العلاقات مع المغتربات وإحداث تواصل فعال وبنيوي. أنا أدعوك إلى إكمال هذه المسيرة. هل أنت مستعد؟".

بالتأكيد وبالإيجاب كان ردي. فلطالما تناقشت مع الوالد في تفاصيل قضايا المغتربين وربطهم بالوطن الأم. إنه لشرف كبير أن أكون إلى جانبك.

في تلك اللحظة بالذات، تعرفت على رجل فريد ونادر. استثنائي في طيبته مع اندفاع غير مألوف. متعمق في ثقافته. محرج في تواضعه. على التزام بروحية مشرقية وبرسالية لبنان بما لا نعهده بسهولة في كثير ممن حوالينا. هو ميشال إده الأب المؤسس للمارونية للانتشار، الذي برهافة الفنان وشغفه، خطت ريشته لوحة متأنية للمؤسسة، حريصة على أدق التفاصيل المعبرة، في انفتاح على الآخر، وتأكيد على الوطنية لا الطائفية، وضمن مناخات بيضاء من التآخي والمحبة بين عناصرها.

على مثال المسيحيين الأول نفخ روح الرسالة في خيرة من أفضل نساء المؤسسة ورجالها. أولئك الأولون كانوا يعرفون بمحبتهم لبعضهم البعض. وهو، على خلاف ما هو قائم اليوم، جمع حوله حفنة من حاملي الوزنات. رفعهم فوق كل خلاف، ومعهم وضع أهداف الأمانات الوطنية الكبرى، بعيداً عن كل تقوقع أو تزمت. وباقتدار واحتراف، كانت خارطة الطريق. تحصنت الجماعة من الداخل،جعلها واحداً تتشارك في كل شيء، كما كان تلامذة الناصري يفعلون ويعرفون.

المهمة كانت شاقة وعظيمة. لكن، كان أن سلبت " المؤسسة المارونية للانتشار" كامل عقل وقلب ميشال إده. صارت الابن المفضل لديه. ميّزها عن شتى مؤسساته، فباتت هاجسه. وبفضل تلك الروح المشرقة والرسالة النقية، استطاعت المؤسسة مخاطبة أهل الداخل والخارج. فالمشروع وطني بامتياز. إنه لبنان الواحد المتنوع المتعدد، لا الكيان الطائفي الانعزالي الانفصالي. وهل أهم من إعادة ذلك التوازن الحسّاس إلى مكوّنات لبنان الحضارية كأساس للانسجام الوطني العام؟ وهل سهل لمّ شمل الموارنة في المغتربات؟ وكيف نعيد ربطهم بالوطن بعد إهمال مخجل ومخز؟. وهل قليل وضع مواهبهم وطاقاتهم في خدمة وطن لطالما رفضهم أو أقله تناساهم؟

عرفت "المؤسسة المارونية للانتشار" مع ميشال إده أن تقنع كثيرين. لم تستفز أحداً. بمفهوم الشراكة صاغت مهماتها، فبددت الهواجس والتحفظات، ونجحت.

جهدت في التواصل مع الانتشار اللبناني، كل الانتشار المتنوع، القديم منه والحديث. فللمغترب كامل الحق في تسهيل تسجيل وقوعات أحواله الشخصية، والواجب يدعو إلى حثه على ذلك. ففتحت لهذا الغرض، المكاتب في العواصم والمدن، في أوروبا، وفي الولايات المتّحدة الأميركية وكندا، وفي جنوب أفريقيا وفي أميركا الجنوبيّة وأوستراليا.

كما نسقت بفضل علاقاته المميزة مع وزارتي الداخلية والخارجية والكتل النيابية والمرجعيات الروحية كافة، لتفعيل دور السفارات والقنصليات والكنائس والجوامع إنطلاقاً من البديهيات في تسجيل الأحوال الشخصية، والعمل في مجال الربط الاقتصادي وتسويق لبنان في الخارج والإضاءة على الفرص الاستثمارية المتاحة في لبنان للمغتربين.

ونجحت في إرساء أفعل جسور التواصل، من خلال رحلات تعريف شبيبة المغتربات على أرض الجذور والقيم والتراث، في برامج هادفة في العمق، نظمتها أكاديميتها المارونية...

وكان النجاح الأخير في تثبيت استراتيجية الشراكة الكاملة مع المغترب، مع إقرار قانون استعادة الجنسية.

البارحة، سلم ميشال إده المشعل وهو مضاء. بنبل فعل على طريقة الكبار فحسب، بعيداً عن مماحكات "الخلافة" وسوادها. في لحظة التسلم والتسليم هذه، عادت بي الذكرى إلى زمن شديد الوطأة، حين كان والدي يسلمني فيه الأمانات وهي مضاءة طبعاً. قال لي رداً على سؤال أخير لي: "الروح وديعة تبقى. أما عن شؤون وشجون العمل، من الآن وصاعداً دبر راسك"، ورحل. يومها بدأ مشواري الكبير في العمل المؤسساتي في الشأنين الخاص والعام.

البارحة تذكرت الأمر مع فارق بسيط. ميشال إده لو سألته وسأفعل، هو موجود وبقربي، بالروح وبالعمل، وسيجيب.

تواصــــــــل معنا