نحو زمن الاعتدال

النهار 19 آب 2013

كم كان يحلو لي الكتابة اليوم عن نجاحات باهرة للشباب اللبناني، في بِناء وطن على قدر آماله وطموحاته، وآمال وطموحات آبائهم وأجدادهم. وطن يفخر به مواطنوه، ولا يعتبرونه ثقلا وإعاقة تلازمانهم في كل مكان وزمان وأينما حلوا. لكن للأسف البالغ، الواقع مختلِف تماما، وهو مؤلم ومرير.

بالصراحة المجردة، نحن في خضم أزمة وجودية خطرة: الاستقرار الوطني مهدّد، والتخوّف من الانزلاق إلى نزاعات طائفية ومذهبية يزيد يوما بعد يوم. مؤسساتنا العامة تتحلَل بالكامل وآليّات اتخاذ القرارات معطلة، والانعكاسات الخطيرة للشلل العام تطغى على جميع مفاصل حياتنا الوطنية، ونحن في سباق بين كارثة اقتصادية – اجتماعية وبين كارثة أمنية لا سمح الله.

اقتصاديا، ديننا العام يزيد كل سنة بنحو 4 مليارات دولار، وقد يجتاز عتبة الـ60 مليار دولار قريبا. العجز يزداد أيضا سنة بعد أخرى، وقد يتجاوز عتبة الـ10% من الناتج القومي، وهذا كله قبل تعديل سلسلة الرتب والرواتب من دون توفير الكهرباء 24 ساعة للمواطن .وبعد سنوات من الثبات في النمو بحدود الـ7%، ها إننا نشهد تراجعا مخيفا يصل إلى ما دون الـ2%.

تتزامن هذه المؤشرات السلبية، مع التراجع الخطير في القدرة التنافسيّة للقطاعات المنتجة، في الصناعة كما في الزراعة. وسيتفاقم هذا الواقع، بسبب غياب أي توظيف ملموس في البنى التحتية، وانحسار كبير في الحركة السياحية.

أما اجتماعيا، فالصورة بطبيعة الحال قاتمة. لقد انكمشت الطبقة الوسطى، وتراجعت قدراتها، وتدنت نسبة مشاركتها في تنشيط دورة الاقتصاد. وينذر توافد أكثر من مليون لاجئ سوري بمشكلة اجتماعية هائلة. يضاف إليها تزايد نسبة المواطنين الذين هم على خطّ الفقر وما دونه.

إزاء هذا الواقع وتحاشيا للانهيار الكبير، بات الواجب يقضي بالتطلع إلى معالجة بنيوية قبل فوات الأوان وحين لا يعود ينفع الندم. وبرأيي، إن المشكلات الجمة التي تواجه المواطن يوميا وما يطبعها من معاناة شاقة، إنما تنتج مِن جراء خلل عضوي في النظام التشغيلي للمنظومة اللبنانية ومن تعثر في عقدنا الوطني.
لقد وضع اتفاق الطائف حدا لدورة عنف طويلة عصفت بالوطن. وإذ استطاع استيعاب صراعات الشارع إلى حد كبير، لكنه نقلها شللا وتجاذبات داخل المؤسسات والإدارات العامة ولم ينجح في بناء ثقة كاملة بين مكوّنات الوطن.

لذلك، لا أرى أولوية أكثر إلحاحا اليوم من إعادة تجديد الوعود بين أبناء الوطن الواحد. فالمطلوب توفير دينامية جديدة تكسر حلقة الشلل لمصلحة وطن يتجدّد، عبر نظام تشغيلي للجمهورية اللبنانية لا يتعطل، يفعّل إنتاجية المؤسسات، يطلق النمو، يفتح آفاق الإبداع، ويحصّن الأمن والاستقرار.

وبرأيي، يشكل التجديد في العقد الوطني على قاعدة الدولة المدنية اللامركزية والحياد الإيجابي أساسا، وبذلك نخفف حدة الصراع على السلطة المركزية ونعزّز اللحمة الوطنية ونفتت القدرة على اندلاع النزاعات. وبدل إضاعة البوصلة والاهتمام بالسياسات الخارجية ولعبة المحاور... لا. فلنصحّح المسار. فلنركز على تحفيز الاقتصاد وبِناء الإدارة والمؤسسات الوطنية. فعبرها نضاعف قدرتنا على إنتاج قيمة مضافة، كفيلة ببناء شبكة أمان اجتماعية متينة، ومن ثم أمنية وعسكرية وطنية، رادعة لكل متطاوِل على سيادة لبنان وحريته واستقلاله. وهذه تكون من الوطن إلى ذاته بكل تجرّد وحرية، لا بمنة من فرد أو جماعة أو بلد أو محور.
وشخصيا، لا أجد مبررا لأي عمل سياسي إذا لم يكن هدفه النهائي تطوير حياة الإنسان وحماية الضعيف والفقير. وهي دعوة أوجهها إلى المسؤولين كافة في وطننا لاتخاذ القرار الأجرأ، في التحول من قادة سياسيين إلى آباء مؤسسين لدولة لبنان الجديد. دولة فاعلة، مدنية، مع لامركزية موسعة وحياد إيجابي، وحيث السياسة تكون في خدمة النمو الاقتصادي والاجتماعي لا العكس.

هكذا نبني المواطنة ونهيئ زمن الاعتدال. وعلى أساس المواطنة، نستطيع مناهضة ثقافة الصراعات المذهبية والطائفية وكسر حلقات التعصب والجهل. ولذلك، نحن مدعوون جميعا لتحضير الأرضية المثلى، من هنا من أرض لبنان العابقة ببخور الكتب المقدسة، للحوار بين الثقافات لا للنزاع بين الحضارات، مظهرين أفضل ما يمكن أن تقدمه المسيحية والإسلام، ليس للبنان والعالم العربي فحسب، بل للإنسانية جمعاء، مقدمين النموذج الحي في كيفية إنشاء الواحة الخصبة لترعرع الاعتدال، مع المحافظة على أصالة القيم الروحية والحضارية.

هذه هي دعوة لبنان في دولة تضمن الغنى ضمن التعدد والوحدة في التنوع. وهذه هي رسالته الأهم: الاعتدال في الأصالة، كطريق نحو التغيير الحقيقي البِنيوي الذي ينقلنا من العقمِ والأحقاد المتبادلة إلى دولة التألق والإبداع، ومن دولة الحروب المستترة إلى وطنِ السلام والرسالة.    *  رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين

تواصــــــــل معنا