العيش المُشترَك المُنتِج هو الميثاقُ الجديد

نعمة افرام – النهار  15 نوار 2014

 

قدِمَت الجَماعاتُ الدينيّةُ المختلِفةُ إلى لبنان، الواحدة بعد الأخرى، هرَباً مِن الاضطهادِ وسعياً وراءَ الحُرّية. هذهِ ثابتةٌ تاريخيّةٌ، لا يَختلفُ حولَها المؤرِّخون ولو تضارَبت أهواءُهم.

بَعدَ الحرْبِ العالميّةِ الأولى، حمَلَ بَطريركُ الموارنةِ الياس الحويك مشروعَ لبنان الكبيرِ إلى مؤتمرِ فرساي مفَوَّضاً من كُلِّ اللبنانيين، لتَحُلَّ فيه "الوطنيّةُ السياسيّة مَحَلَّ الوطنيةِ الدينية" كما جاءَ على لِسانِه. فاقترَنَت وِلادةُ لبنان بمشروعٍ حَضاريٍّ قامَ على ميثاقِ العيشِ المُشترَك، وعلى ثَوابتَ ثَلاثة: الحرية، المُساواة في المشاركة، وحِفظِ التعدُّديةِ والتنوُّع. إلا أنه وقبل ذلك بمئاتُ السنينَ ، ولِدت بَشائرُ هذا الميثاقِ في جبَلِ لبنان، حيث تَرعْرعَ في كنَفِ الأُمراءِ المعنيِّين الدروزِ ثُمّ الشهابيين السُّنّة، مُتّكئينَ على مُدبِّرينَ ومُستشارينَ مَوارنة. وشَهَدت انطلياس العام 1840 أوّلَ ترجمةٍ حِسّيّةٍ مكتوبةٍ في العيشِ معاً أو الموت معاً في سبيلِ الاستقلال. وفي زَمنَ المُتصرّفيةِ، صُقِلت القيمُ والمبادئ التي طبعَت جبلَ لبنان التاريخيّ وإنسانَه، لتنتقلَ بعْدَها من الجبلِ إلى المُدن والمناطقِ الساحليّة.

هكذا، جاءَ ميثاقُ العيشِ معاً سابقاً للدُّستور، ومُلهمًا ومؤسِّسًا له. وفي كلِّ مرّةٍ تتعدَّدُ وِجْهاتُ النَّظَر في فَهْمِ الدستورِ أو تطبيقِه، تتوجَّب العودةُ إلى روحيّةِ الميثاقِ لتُستقى منه المَخارجُ والحُلول. وقد أكَّدت التجاربُ المُرّةُ والمؤلمةُ التي عايَشَتْها الجَماعاتُ الدينيّةُ في لبنان على مَرِّ التاريخ، أنّ لا عيشَ لجَماعةٍ إلاّ بالأُخرى، ومعَها، في إطارٍ نادرٍ من الغِنى الرُّوحيّ والحَضاري. فإذا تفكَّكَت، انهارَ العيشُ، أمّا إذا تسانَدَت، فيكونُ لنا وطنٌ ويكونُ لنا لُبنان. مِن هنا، إذا كانَ على الدُّستورِ أن يتكيَّفَ مع الخِبْراتِ المعيشة والمُكتسَبةِ بما يتَطلَّبُه من تطويرٍ وتحصينٍ مِن ضِمْن الميثاق، فهذا طبيعيٌّ، ويأتي في إطارِ نُموِّ المُجتمعِ جَرّاءَ تَجاربَ مُوجِعة.

ألَم تكُنْ الحربُ التي اندلَعت العام 1975، دليلاً واضحاً على فشَلِ الجمهوريّةِ الأولى في ترْجمةِ المُساواةِ في المُشاركة؟ وهلْ استطاعَ التطويرُ الافتراضيُّ الحاصلُ في الدستورِ في الجمهوريّةِ الثانيةِ تبديدَ الهواجسِ، وصَوغَ مشروعٍ عابرٍ للجَماعاتِ والطوائف، يَرقى بالأرْضِ والشعْبِ والقيَمِ المُشتركة إلى مُستوى الوَطن؟

صحيحٌ أنّ اتفاقَ الطائفِ وضَع حدّاً لدَورةِ عُنْفٍ طويلةٍ عَصَفت بلبنان، واستطاعَ استيعابَ صِراعاتِ الشارع إلى حد كبير. لكنّه لم ينجَح في الحَدِّ من تجاذُباتِها داخلَ المؤسَّساتِ والإداراتِ العامّة، فَسادَ الشللُ والتعطيل. وأضْحَت المساواةُ في المُشاركةِ على حسابِ الإنتاجيّة. وبقيَت الهواجسُ، لا بَل تشعَّبت وزادَت. فهَل تصُحُّ عمليّةُ شلِّ آليّاتِ اتّخاذِ القراراتِ، بمُجرّدِ ربْطِ حِسابات الرِّبحِ والخَسارةِ في السياسةِ اليوميّة، بالعَيشِ المُشترَك، غيرَ آبهينَ بكُلفة هذا الشلَل؟ وهل يجوزُ مثلاً إيقافُ الزمَنِ والتعطيلِ عندما نواجِهُ استحقاقاً ما، بحُجّةِ تهديدِ العيشِ المُشترك، غيرَ مبالينَ بهدرِ المواردِ والفُرَص، أيْ والوقت، وهو أثمنُ ما عِندَ الإنسانِ والمُجتمعات؟ وهلْ وصَلْنا إلى الحدودِ القُصوى مِن مِطواعيّةِ تطويرِ الدستورِ ضِمنَ ميثاقِنا الوطني؟ وهلْ نحنُ أمامَ حائطٍ مَسدود؟

لقد تحوَّلَ كُلُّ استحقاقٍ إلى أزْمةٍ وكُلُّ قرارٍ إلى شلل. تعطّلت آليّاتُ العمل، فانهارت المؤشِّراتُ الاقتصاديّةُ ووصَلَت إلى القَعْر. دَينُنا العامّ في حدودِ 64 مليار دولار وعجْزُ الكهرَباءِ ملياران ونُصف. النموُّ في حدودِ الواحدِ في المئةِ والحمايةُ الاجتماعيةُ تَضمحِلُّ حتّى الحَضيض. وها هي أوجاعُ اللبنانيّين تتعاظمُ صِحّيّاً وتعليميّاً وسكَنيّاً. ويُصيب بُنانا التحتيّة تآكُلٌ مُخيف. التلوّثُ في أوْجِه وثروتُنا المائية تُهدَر. إنتاجيّةُ القِطاعِ العامّ أقلّ بعْشرِ مَرّاتٍ من القِطاع الخاصّ. وفي الوقت الذي نحتاجُ فيه إلى خلْقِ 25 ألف فُرْصةِ عملٍ سنويّاً أمامَ شبابِنا، هَيهاتِ أن نتمكّنُ مِن تأمينِ 5 آلافٍ منها. مواطنونا يَستجدونَ جَوازاتِ سفَرٍ أجنَبية. وبدَلَ استقطابِ اللبنانيّين من الانتشار، نستبدلُهم بلاجئينَ ونازحينَ دونَ آليّاتٍ تنظيمية. أمّا الأولوّياتُ فتكمُنُ في خدمةِ أجنداتِ المَحاورِ، والتخَوُّفِ مِن الانزلاقِ إلى نِزاعاتٍ مذْهبيّةٍ على أشدِّه. مُنذُ العام 2006 ، لمْ تُقرّ موازنةٌ في مجلِس النوّاب. وفي البارحةِ مدَّدَ مجلِسُ النوّابِ ولايتَه، واليومَ، نفشَلُ في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية. فهلْ أُكمِل؟

لقد وصَفت مُذكِّرةُ بكركي الوطنيّةُ الميثاقَ بأنه روحٌ ووعد، وناظمُ العملِ السياسيّ في لبنان والضابطُ له. وشخصيّاً، أقرأ في مُذكِّرةِ بكركي الوطنية أنّ العيشَ معًا في لبنان لم يَعُد كافياً. فالعيشُ العقيمُ هو موتٌ سريريّ محتّم، والعيشَ المُشترَك المُنتِج هو الميثاقُ الجديد.

وبرأيي، اللاءان اللتان بُني عليهُما الميثاقُ العام 1943، كانت نهائيّتَهما بناءَ منظومةٍ منتِجة لِقيمةٍ مُضافة، هي أشمَلُ وأعمَقُ بكثيرٍ من عَيشِ كلِّ فريقٍ في عالمِه وخصوصيّاتِه وأولويّاته . من هُنا، أوليسَ المطلوبُ إعادةَ تجديدِ الوعودِ في العقْد الوطني، وتطويرِه وتحصينِه، ضِمن منظومةٍ ميثاقيةٍ مُنتجةٍ هي لُبُّ التجرِبة اللبنانيةِ على ما أشارَت إليهِ مذكِّرةُ بكركي الوطنية؟

أتستطيعُ منظومةُ الشراكةِ الجديدةِ على أساسِ الإنتاجية، أن تُوقفَ دُوّامتي الشللِ والهواجِس، فتبني دولةً جديدةً، عادلة، قادرة، ومُنتجة، وفي كِيانٍ مستقرّ يَخدِم الإنسان؟ أوليست هذه مسؤوليةً تاريخيّةً مُلقاةً على عاتقِ الجَماعاتِ اللبنانيةِ في إعادةِ تظهيرِ مفهومِ الوطنِ والمُواطنةِ في المئويةِ الثانية للبنان؟ أيكونُ البُنيان على قاعدةِ الدولة المدنيةِ اللامركزية والحِياد الإيجابيّ، كما تدعو مُذكِّرة بكركي؟ أمْ يكونُ البُنيان وليدَ مَوازينِ قِوى آنيّة، يأخذُ الرابحُ فيها كلَّ شيء ويخسَر الشريكُ الآخر كلَّ شيء... إلى حينِ بروزِ مَوازين قِوى جديدة، فينقلِب الرابحُ خاسِراً والخاسر رابحاً؟ ... وتبقى اللعنةُ تُواكبُنا من جيلٍ إلى جيل!

 

الرئيس السابق لجمعية الصناعيين

تواصــــــــل معنا