تعميم النموذج اللبناني عربياً

نعمة افرام – النهار 2015

بالدم الهادر، ترسم الاحداث والتحولات خرائط جديدة لمنطقتنا العربية، لا معالم لها واضحة أو حدوداً نهائية. وبالبؤر المتفجرة، وعلى انقاض الزلازل المتنقلة، وبأسف أو من دونه، ترفع النعاوى على روح سايس – بيكو، وليس من وليد جديد بعد. وباللامبالاة وعلى طريقة الراقصين السكارى على حافة الهاوية، تعبث المتغيرات بنظام اقليمي كتبه تاريخ انهيار الامبراطورية العثمانية قبل مئة عام.

لم تكفنا نكبة فلسطين، ولا ارتداداتها وتداعياتها. لم يرهبنا احتراق الجمهورية اللبنانية. ولم نتعلم من حربي الخليج الاولى ولا الثانية. فقد حول بعضهم الربيع الى مساحات للموت، وكأنهم يحنون الى جاهلية ترسخت عميقاً في لاوعيهم، أو هو الوعي أبى التخلي عنها يوما. وفي فصل أخير من حياة امة في مئويتها الاولى بعد الحرب العالمية الاولى، تغيب الحلول. ويواجه عالمنا العربي التفضيل ما بين ارهاب متوحش، او صراع مذهبي مستعر. وما بين استقرار تؤمنه ديكتاتوريات ظلامية، او فوضى عبثية تضرب الدساتير والانظمة.

انه زمن الازمات والمتغيرات، وسيَليه حتما زمن التسويات. فهل يجوز الاكتفاء بما قد ترسمه السياسات الدولية لبلداننا؟ للاسف، كتب على هذا الشرق الا يقبل على البحث في اعادة تركيب الاوضاع والمجتمعات المفككة، الا على الساخن، وبعد حروب وويلات، ووفق مصالح الآخرين.

شخصيا، اجد من المناسب اليوم كسر حالة الانكار السائدة. فقد آن الاوان للاعتراف بأن المشهد في الشرق الاوسط قد انقلب رأساً على عقب، وان هناك استحالة ان تعود المنطقة الى ما كانت عليه يوما. فكيف نعيد بناء اوطاننا؟ وكيف نوفق بين شتى انواع التنوع، واهمها المذهبي والاتني؟ وكيف تكون لنا مجتمعات مستقرة، تنمو وتحقق سعادة مواطنيها؟

هل من مغالاة او مبالغة اذا اعتبرنا، انه في سبيل وقف الصراعات الدموية في المجتمعات المتعددة، لو تم تطوير النموذج اللبناني واعتماده، لشكّل افضل الحلول الممكنة والمتاحة للوصول الى اهداف كهذه من دون تغيير في حدود الدول أو المس بوحدتها المعنوية والمادية؟

قد يتساءل البعض في السر أو العلن، هل نجحنا في تجربتنا اللبنانية لنطلب تعميمها؟ لذلك، اسارع الى القول، ان الاستقرار النسبي الذي وصلنا اليه في لبنان، سيدعم اكثر مع استكمال الاصلاحات البنيوية التي أقر بعضها دستور الطائف، واهمها اللامركزية. وهذا مسار يكفل استقطاب وتثمير القدرات الحية للمجتمع المدني، في مجال ايجاد القيمة المضافة وتطوير حياة الانسان.

صحيح أنّ الديانات هي في صلب مكوّنات لبنان الاجتماعية وملهمتها، لكن بعيداً عن التقوقع والتزمت. ولبنان يسير بخطى ثابتة نحو التزاوج بين ارث القيم في الديانات السموية وبين التجديد والحداثة، في دولة لامركزية تقول لا للأصوليات كما للالحاد كنظام، وتقول نعم للحياة المشتركة الصافية والمنتجة. دولة تحقق العدالة والمساواة بين ابناء الوطن، وتبسط سلطة القانون، وتحمي حق الاختلاف والتنوع، وقبولهما.

انه الى مثل هذا النموذج نتوق، في دولة لا تأسرها المحاور الدولية والاقليمية، بل مصلحة شعبها اولاً، والقضايا العربية المشتركة. دولة تعتمد الحوكمة الرشيدة، وهي تعني الانسان في الاساس. دولة تبني قراراتها على الانتاجية والقيمة المضافة، وليس على الكيدية السياسية أو المذهبية أو المناطقية. وذلك يتطلب الاستمرار في عملية تطوير النظام التشغيلي المنتج للمنظومة اللبنانية، وتحديث آليات اتخاذ القرار في مختلف مفاصل الادارة اللبنانية، لتصب في صالح السعادة الشاملة للمواطن، وتطوير حياته، وتحقيق ذاته، واطلاق طموحاته، وانمائه روحياً وفلسفياً.

من مخاض المآسي في لبنان، بدأت مثل هذه الرحلة. ومن ليالي الموت والنار، كانت تتقدم ببطء. وعند كل محطة، وبالألم الممزوج بالعزم، كنا نكمل الطريق، ولو لم نصل بعد الى محطتنا الاخيرة، لكنها رحلة اوقفت الحروب العبثية، وهذا ما لا ينطبق اليوم على محيطنا العربي.

فليبيا تغلي على وقع ازمات اقتصادية واجتماعية، على رغم غنى ثرواتها الطبيعية وبعدها عن الانقسامات الدينية والمذهبية. أليست اللامركزية الموسعة والمتطورة مخرجاً لفوضاها الدموية؟ اليست اللامركزية الموسعة والمطورة حلاً لسوريا لتبقى موحدة؟ وماذا عن اليمن الذي كان سعيداً ذات يوم؟ وكيف يبقى العراق واحداً خارج نظام حكم لامركزي خلاق، يجمع بين الاقاليم القائمة بحكم الامر الواقع، وسط تنوع مذهبي وقومي؟

قد لا يشفي كلامي هذا غليل الكثيرين، لكن التنوع الذي كان مرفوضا بات واقعاً. والتعدد الذي كان مغيّبا، بات على الخارطة. فهلموا نستخلص العبر من التجربة اللبنانية. هلموا نقصر هذا المخاض العربي الضارب بإزميل الدم الهادر، وعلى انقاض الزلازل المتنقلة. هلموا نستشرف مئوية جديدة لبلدان شرقنا الحبيب، تكون اقل عقائدية وأكثر واقعية، وتكون اقل تصلباً وأكثر انسانية.

تواصــــــــل معنا