كتاب مفتوح إلى رئيس فرنسا فرنسوا هولاند

النهار  16 نيسان 2016

 أهلا بكم إلى ربوعنا اللبنانية فخامة الرئيس، ضيفاً عزيزاً في زمن مؤلم وصعب.

إنه زمن المتغيرات الكبرى من حولنا فخامة الرئيس، حيث يمكن أن ترسم الأحداث والتحولات خرائط جديدة لمنطقتنا العربية، لا معالم لها واضحة أو حدوداً نهائية. ومع غياب الحلول، كم هو مؤلم لعالمنا العربي أن يكون أمام خياري التفضيل ما بين إرهاب متوحش أو صراع مذهبي مستعر، وما بين استقرار تؤمنه ديكتاتوريات ظلامية أو فوضى عبثية تضرب الدساتير والأنظمة.

فخامة الرئيس،

ربط البحر الأبيض المتوسط لبنان وفرنسا تاريخياً، بالعديد من الصلات الثقافية والقيم المشتركة. وأنتم تدركون دون شك ان الجَماعاتُ الدينيّةُ المختلِفةُ قد قدمت إلى لبنان عبر التاريخ، هرَباً مِن الاضطهادِ وسعياً وراءَ الحُرّية. وقد اقترَنَت وِلادةُ هذا الوطن بمشروعٍ حَضاريٍّ قامَ على ميثاقِ العيشِ المُشترَك، وعلى ثَوابتَ ثَلاثة: الحرية، المُساواة في المشاركة، وحِفظِ التعدُّديةِ والتنوُّع. وقد أكَّدت التجاربُ المؤلمةُ التي عايَشَتْها الجَماعاتُ الدينيّةُ في لبنان على مَرِّ التاريخ، أنّ لا عيشَ لجَماعةٍ إلاّ بالأُخرى، ومعَها، في إطارٍ نادرٍ من الغِنى الرُّوحيّ والحَضاري.

فخامة الرئيس،

صحيحٌ أنّ اتفاقَ الطائفِ وضَع حدّاً لدَورةِ عُنْفٍ طويلةٍ عَصَفت بلبنان، واستطاعَ استيعابَ صِراعاتِ الشارع إلى حد كبير، لكنّه لم ينجَح في الحَدِّ من تجاذُباتِها داخلَ المؤسَّساتِ والإداراتِ العامّة، فَسادَ الشللُ والتعطيل. لقد أضْحَت المساواةُ في المُشاركةِ على حسابِ الإنتاجيّة، بحيث تحوَّلَ كُلُّ استحقاقٍ لدينا إلى أزْمةٍ وكُلُّ قرارٍ إلى شلل. فانهارت المؤشِّراتُ الاقتصاديّةُ واضمحلت الحمايةُ الاجتماعيةُ ُ وتعاظمت أوجاعُ اللبنانيّين على شتى الصعد. وفي الوقت الذي نحتاجُ فيه إلى خلْقِ 25 ألف فُرْصةِ عملٍ سنويّاً أمامَ شبابِنا، هَيهاتِ أن نتمكّنُ مِن تأمينِ 5 آلافٍ منها. وبدَلَ استقطابِ اللبنانيّين من الانتشار، نستبدلُهم بلاجئينَ ونازحينَ دونَ آليّاتٍ تنظيمية. ومُنذُ العام 2006، لمْ تُقرّ موازنةٌ في مجلِس النوّاب. وفي وقت مدَّدَ مجلِسُ النوّابِ ولايتَه، ها أننا نفشَلُ في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية منذ سنتين.

فخامة الرئيس، إلى جانب انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، تتطلب عملية النهوض بلبنان سلة تطويرية تكسر حلقة الجمود والشلل، وتعيد العمل المنتظم والطبيعي إلى مؤسساتنا الدستورية والوطنية. وهي مهمة إلى درجة، تفترض إعادة النظر في عقدنا الوطني، فلا نعود نكتفي بعيش مشترك عقيم بل بالتحول إلى العيش المشترك المنتج، في دولة لا تأسرها المحاور الدولية والاقليمية، بل مصلحة شعبها أولاً. دولة تعتمد الحوكمة الرشيدة، وهي تعني الانسان في الأساس. دولة تبني قراراتها على الانتاجية والقيمة المضافة.

إن التجديد في العقد الوطني فخامة الرئيس، يطلق حكماً عملية تطوير منهجية للنظام التشغيلي اللبناني برمته، مع تحديث آليات اتخاذ القرار في مختلف مفاصل الادارة اللبنانية، لا سيما في ثلاثة محاور يتقدمها جميعاً انتخاب الرئيس: وضع قانون انتخابات عصري يكرس المناصفة ويحمي الشراكة وميثاقية الدستور، وإقرار قانون اللامركزية الادارية الموسعة بما يمثل من فرصة جدية لتمتين الوحدة الوطنية وتأمين الاستقرار بتخفيف حدة الصراع على السلطة المركزية، وإقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص كمدخل أكيد لإيجاد حلول لسلسلة طويلة لا تنتهي من المعوقات التنموية.

وبهذا ننطلق بمسار تجددي، يصب في صالح السعادة الشاملة للمواطن، وتطوير حياته، وتحقيق ذاته، وإطلاق طموحاته.

فخامة الرئيس،

إن التنوع الذي كان تحدياً في لبنان بات واقعاً. والتعدد الذي كان مغيّباً عن عالمنا العربي، بات على الخارطة. فهل من مغالاة او مبالغة إذا اعتبرنا، انه في سبيل وقف الصراعات الدموية في المجتمعات المتعددة من حولنا، يبقى النموذج اللبناني بعد احداث الاستقرار فيه وتطويره وانتخاب الرئيس، واحد من أفضل الحلول الممكنة والمتاحة للوصول إلى نهايات سعيدة من دون تغيير في حدود الدول أو المس بوحدتها المعنوية والمادية؟

إن وطننا فخامة الرئيس، يشكّل بتنوّع مكوّناته أرضية مثلى للحوار بين الثقافات لا للنزاع بين الحضارات. وهو يمثّل من خلال خصوصيته كوطن وكيان، أرضاً عابقة بالقيم الإنسانية، ما يؤهّله لإطلاق مبادرات رائدة على صعيد المنطقة والعالم، ترسي الحوار في مواجهة الإلغاء والمحبة في وجه الحقد. إنها الرسالة النموذج في ضمان الغنى ضمن التعدد والوحدة في التنوّع. إنها رسالة لبنان في الاستقرار والعدالة والسلام.

إنها مسؤوليةً تاريخيّةً مُلقاةً على عاتقِ الجَماعاتِ اللبنانيةِ في إعادةِ تظهيرِ مفهومِ الوطنِ الرسالة. وهي مسؤولية دولية، وفرنسية في الطليعة. وإذ نشكركم على وقوفكم إلى جانب جيشنا الوطني ومتابعة دعمه، ننشد في الوقت عينه تعاونكم مع أصدقائكم في العالمين الاقليمي والدولي لتسهيل المناخات المناسبة للتطوير والتجديد في عقدنا الوطني على قاعدة العيش المنتج، فيتحول لبنان عندها نموذجاً حياً في سبيل مقاربة مئوية جديدة لبلدان شرقنا الحبيب، تكون أقل عقائدية وأكثر واقعية، وتكون أقل تصلباً وأكثر انسانية. والسلام.

 

تواصــــــــل معنا