عن جدارة القادة

نعمة افرام – النهار  22 تموز 2016

  كم يُشبه الزمن الذي تمر به المنطقة وبلادنا، ما عاشه العالم أجمع زمن الحرب العالمية الأولى. إنهارت يومها القوى العظمى التي كانت تختصر الخارطة الكونية، لتنبت حولنا وعلى أعقاب الامبراطوريات العثمانية والروسية والنمساوية أكثر من 35 دولة في أقل من 100 عام.

وكم أتخوّف من تاريخ يكرّر ذاته اليوم، خلال مرحلة العصف الكوني التي تضربنا في هذا الشرق. وكم أخشى أن تنتهي التحولات الصاعدة من مخاض المآسي، بتغيير بنيوي وخرائط تتجدد، فتفرخ بلاداً جديدة وتتكاثر كالفطر، من رحم الأوطان القائمة، كما حدث قبل مئة عام.

عندما نقيم جردة حساب على ما نحن عليه في لبنان، متلمسين هذا الزمن الدقيق والخطر، نجد أنفسنا وسط آلام مخاض هجين مع قلق بأن نكون دخلنا في عين العاصفة، ونحن إمّا غير مدركين أو غائبين عن الوعي. فقد تجاوزنا الخطوط الحمرِ ولم تعد هناك مسافة واضحة للانهيارات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، أمام خط الدفاع الأول عن الوطن ككيان، والأرض كمساحة مقدَّسة للتلاقي، والشعب الذي فاق في تكيّفه الاسطوري ما لم يشهده شعب آخر على وجه المعمورة.

علينا جميعاً، كسْرِ حالةِ الإنكارِ السائدة. عشر سنوات تمر، ولا يستطيع مجلس النواب أن يضع موازنة عامة. خمس سنوات تمضي، ولا تتجاوز خلالها القوانين المقرّة عدد أصابع اليد. يمدّد للمجلس مرة، ومرتين، ومن يدري؟ تنقضي سنتان ولم ننتخب رئيساً للجمهورية بعد!

آليّات اتّخاذ القرارات معطّلة. الشلل يغزو السلطتين التنفيذية والتشريعية، ناهيك عن حياتنا الدستورية، وحياة المواطن اليومية. ديننا العام يقترب من حدود ال 150% من الناتج القومي، مع عجز سنوي يفوق نسبة خدمة الدين. وقد بلغ الدين في هذا الشهر حدود الـ72 مليار دولار وهو يتزايد 7% سنويا، في حين ينمو الاقتصاد بنسبة 1%. البنى التحتية منهارة والحماية الاجتماعيَّة شبه معدومة. وها هي تداعيات النزوح للمواطنين السوريين تفوق كل تصور أو منطق. وما نشهده على أرضنا يتخطى قدرات الدول العظمى، فكيف بدولة على مشارف إعلانها فاشلة، وحيث عدد النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين يفوق نصف تعداد سكانها؟!

واقعنا مرعب، وكل ذلك يجري وسط إرباك داخلي كامل وعجز عن اتخاذ أبسط التدابير للحدَ من التدهورِ.

في المحصلة، إنّها جريمة موصوفة ومتكاملة العناصر، ترتكب بدم بارد. وعلينا أن نعمد اليوم، وفوراً، الى إعادة رسم خطة واضحة المعالم ومنهج دقيق ونهائي للأبعاد السياسيَّة والاقتصاديَّة – الاجتماعيَّة التي تشكل جوهر أمننا القومي الوطني.

ولنعترف جميعاً: بأنّ الأمن القوميّ الوطنيّ المفتّت لا يمكن استعاضته عن طريق القوَّة العسكريَّة فقط، لأنّه بكل بساطة يقاس بالقدرة وليس بالقوّة. وقدراتنا السياسيّة مشتَّتة، والاقتصاديَّة محطَّمة، والمجتمعيَّة ممزَّقة... وأبوابنا مشلَّعة. فرجاء رجاء، امنحوا وطننا فرصة. ارحموا لبنان.

تكرّست القاعدة في قياس الوعي لدى الشعوب مهما كان حجمها، بقدرتها على القراءة المعمّقة للأحداث الجارية في العالم، ومن حولها ولديها، لتتجنّب الكوارث أو لتستفيد من الفرص. وكم أتمنى، لتدارك الخطر البنيوي الذي يهدّدنا، أن نبدأ بوضع استراتيجيات لمحاور أمننا القومي، في خطط متكاملة تتضمّن أربعة محاور، تحاكي المرحلتين الآنية والمقبلة، لتحاشي الانهيار الكبير، لا سمح الله.

أولاً- انتخاب رئيس للجمهورية: الواقع أننا لم نستفد لتاريخه من ضوء لاح من نافذة دولية، وعلى أكثر من صعيد، تجلّى في التقارب بين القوى العظمى، وبينها وبين بعض المحاور الإقليمية. أخشى أن تفوتنا الفرصة وتقفل هذه النافذة، فنخسر الأمل برئيس يعود ويربط لبنان بالعالم خلال مرحلة التغييرات الدقيقة. رئيس يعزز الأمن ويخفف معاناة مواطنيه، ويحارب الفساد، ويقرب المسافات بين أهله في مرحلة دقيقة من عمر الوطن.

ثانياً- قانون الانتخابات: في ظل رفض الجميع، وأقول الجميع، قانون الـ60 الساري المفعول، نتساءل ما الذي يحول لتاريخه دون وضع قانون انتخابات عصري صحيح التمثيل؟

وإذا كان الجميع متفقون على أنّ المدخل إلى إعادة الانتظام العام في عمل المؤسسات الدستورية يتمثل في قانون الانتخابات، والقانون هذا لا يزال مغيَّباً، فماذا ننتظر؟

وإذا كان الجميع يبحث في قانون مختلط يجمع ما بين النسبي والاكثري، يضمن المصالح الوطنية الأساسية في الوقت الذي يعالج فيه هواجس الطوائف، كما تطلعات المناطق، فما الذي يحول دون إقراره؟

إنّ دستورنا ينص على أن الشعب هو مصدر السلطة، كل سلطة. وهناك من يفسّر الدستور قائلاً إنه لا تَصح عملية استفتاء الشعب مباشرة، لأنّ الشعب قد أوكل حصرياً ولمدة محدّدة هذه السلطة إلى ممثلين وكلاء عنه، على رغم التشكيك الحاصل في صلاحية هذه الوكالة.

شخصياً، أفضّل الاستفتاء الشعبي حول أفضل قانون انتخابي. لكن، إذا سلّمنا جدلاً بصحة ذلك التفسير، وفي سبيل الإنتقال من حالة التَّوصيف إلى حالة تسهيل رسم الحُلول عملانيَّاً، فلا بد من أن نطالب بقوّة، بِحَق الشعب الدستوري المقدَّس، وكمواطنين أولاً بأول، بالإطلاع الكامل من خلال النقل المباشر الحي، على دقائق كل بحث يجري حول قانون الانتخابات.

كما نطالب بالقوّةِ عينها، بعقد جلسات مفتوحة لمجلس النواب مخصّصةٍ للقانون الإنتخابي مع مهلة محددة في الزمن، لا ترفع خلالها إلاّ مع دخان أبيض يبشّر بمولود جديد. وفي حال انقضاء المهلة الزمنية المحددة، يكون للشعب حقه الطبيعي في اختيار القانون الأفضل من خلال استفتاء عام.

ثالثااً - إعلان حالةِ طوارئ اقتصاديَّةٍ – اجتماعيَّةٍ: إني أجدد اليوم الدعوة التي سبق أن أطلقتها قبل سنوات، في إعلان حالةِ طوارئ اقتصاديَّة - اجتماعيَّة بكل ما للكلمة والحالة من معنى. إن توفير فرص عمل في ظل بطالة لبنانية متعاظمة ووجود أكثر من مليونين ونصف من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين هو أولوية الأولويات. فالمشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم وبسرعة جنونية، ولا نرى أحداً يتصدّى لها.

وكم نحن في حاجة إلى استحداث مناطق اقتصادية ومدن صناعية ومشاريع زراعية، مع تحفيزات ضريبية وتشريعية، تستقطب رؤوس الأموال ناحية القطاعات المنتجة التي توفّر فرص العمل لتعزيز شبكة الأمن القوميّ اللبنانيّ، إلى جانب إطلاق النمو الاقتصاديّ، كما الاجتماعيّ.

ولتجاوز المعوق الأساسي للنمو الذي يكمن في تآكل البنى التحتية، نعتبر إن وضع آلية تسهّل الشركة بين القطاعين الخاص والعام، والتعامل مع الصناديق الدولية المتخصصة بالتنمية، هي من أهم ركائز التطوير وإطلاق النمو الاقتصادي – الاجتماعي.

رابعاً- الحرس الوطني: في ظل الظروف الفائقةِ الخطورة، وأمام هول الضربات الإرهابيةِ، ومع ظهور حالات من ردود الفِعل الأهليةِ في أكثر من منطقة، تتبين الحاجة الى إنشاء الحرس الوطني المرتبط بالمؤسسة العسكرية، لتعزيز سد الثغر الأمنية.

إن الحرس الوطني يحوّل أبناء لبنان خفراء في مواجهة كل المخاطر، ويعزّز الانصهار الوطني. ويمكن له أن يضم احتياطي الجيش من قيادات وكوادر وعناصر، مع خيرة من شابات وشبان لبنان من المتطوعين لتلبية نداء الواجب تحت مظلة الجيش اللبناني، وضمن منظومة متكاملة للدفاع الوطني.

نحن اليوم أمام امتحان حقيقي لنؤكد لأنفسنا وللعالم أجمع، أنّ شعبنا يستحق وطنه، ويعرف كيف يحمي مصالحه ويصونها، ويبني مستقبله. وفي التضحية والتعالي عن السياسات الضيقة، نصنع وطناً كهذا. يبقى أنّ المعادلة واضحة: إذا اتفقنا، نبني ونعيش ونتقدم. وإذا اختلفنا، نهدم ونموت ونزول. وعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان.

إننا اليوم في هذه النقطة بالتحديد. شخصياً، لا أهاب القدر. لكنني أخشى من قادة لم يثبتوا جدارتهم في السابق في اجتياز الامتحان. فأمام هول اللحظة والمرحلة، هل يفعلون اليوم؟!

تواصــــــــل معنا