السفير تحاور القطاعات الاقتصادية والنقابات

اختارت «السفير» أن يكون دخولها سنتها الأربعين مناسبة لاستعراض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومدى تأثرها بالأجواء السياسية المعقّدة، لا سيما في ظل التداعيات الخطيرة للتحولات الجارية في المنطقة من حولنا التي تتّشح بالدماء في حالاتٍ كثيرة.

وهكذا نظّمت سلسلة من المحاورات المفتوحة مع الهيئات الاقتصادية والمؤسسات التجارية والقطاعات النقابية، لنعرف أين يقف لبنان الآن، وما يتهدّده من مخاطر.

تلامس هذه الحوارات موقع الدولة والقطاع العام من التحولات الجارية أو المتوقعة، كذلك موقع القطاع الخاص بمؤسساته وهيئاته المختلفة.

وتنوّه «السفير» بأنّ هذه المؤسسات جميعاً قد لبّت الدعوة إلى الحوار، وطرحت مشكلاتها وهمومها وموقف الدولة منها، بصراحةٍ مطلقة، مقدّمةً مقترحاتها الممهدة للخروج من المناخ المأزوم، والتقدم بالاقتصاد مع معالجة مشكلات القطاعات المختلفة.

ولسوف تنشر «السفير» خلاصات هذه المناقشات تباعاً، لعلها تفيد في اكتشاف طريق الحل، خصوصاً أنها تتزامن في الفترة الفاصلة بين حكومتين وربما بين نهجين في ممارسة السلطة في زمن الاضطراب.

هنا، عرض لوقائع الندوة الحوارية مع «جمعية الصناعيين اللبنانيين» ممثلة برئيسها نعمة افرام، ورئيس مجلس تنمية الصادرات خالد فرشوخ، وأمين سر مجلس الادارة العميد وسيم سمعان، ومستشار الجمعية انطوان العويط.

لا يرى افرام أن الصناعة مسؤولة عن خلق الصادرات والاتيان بعملة صعبة للبلد فحسب، بل هي تحدّ في الوقت نفسه، من الاستيراد الذي يبلغ أكثر من 17 مليار دولار سنوياً من دون احتساب كلفة المحروقات.

وفيما يأسف أنه لم نتمكن حتى اليوم، من احصاء الناتج الصناعي في لبنان لنعرف مدى مساهمة قطاع الصناعة في الحدّ من الاستيراد، يعتبر أن المشكلة الأساسية التي تواجه الصناعيين، هي في عادات المجتمع اللبناني وتقاليده، فالعقلية اللبنانية، كانت تنظر إلى مهنة الصناعة بدونية واستخفاف.

ويعود بالزمن إلى أيام الأمير فخر الدين، عندما كان الميزان التجاري يسجل فائضاً، لكن بدأ هذا العامل بالانحدار عندما ضربنا صناعة الحرير.

بعد هذا المدخل، الذي يبرز بإيجاز المخاطر التي تهدد الصناعة ودورها الحيوي في الاقتصاد اللبناني، يغيّر افرام زاوية الرؤيا، ليقول: على الرغم من ذلك، يواكب الصناعيون من 40 سنة إلى الآن، أي من عمر جريدة «السفير»، التغيرات والتقدم الذي يشهده القطاع عالمياً، ما أحدث قفزة نوعية من ناحية إدراك المجتمع اللبناني عموماً، والمستهلك والسياسي خصوصاً، أن هناك إمكانية لأن يكون لبنان بلداً صناعياً، وقد بدأت ملامح ذلك تتجلى في السنوات الأخيرة، بحيث أصبحنا في مكان تدلّ فيه قناعاتنا على عملنا.

الصناعة في المناهج التربوية

يرى افرام أن دخول صناعيين إلى العمل الحكومي، يجب استثماره، ولتعزيز هذا التوجه، هناك تعاون بين الجمعية ووزارة التربية والتعليم أخيراً، لتعديل المنهاج خلال سنة، بحيث يتضمن مواضيع عن الصناعة اللبنانية والاستهلاك المحلي، كذلك لتحفيز الطالب على شراء المنتج اللبناني، وتمكينه من التمييز بين المنتج محلياً والمنتج غير اللبناني، ما يواكب شعارنا: صناعتك هويتك، موضحا في هذا السياق، انه من المفيد أن يعلم الطالب أن المنتج اللبناني يتمتع بجودة عالمية، وأنه عندما يستهلك هذا المنتج، 90 في المئة مما يدفعه يبقى في لبنان.

لكن، المشكلة لا تنتهي هنا، برأي افرام، إذ على صعيد تحديث القوانين والتشريعات لا تزال هذه المواكبة دون المستوى المأمول، أي ما زلنا متأخرين، ويضرب مثالا على ذلك، بأنه في قانون العمل لا نلمس تحفيزا لخلق فرص عمل صناعية، كذلك لا نرى قوانين محفّزة للدمج الصناعي بين المؤسسات الصغيرة، وداعمة لإنشاء مناطق صناعية، وتساهم بتعزيز التقارب وصولا إلى التكامل بين التجارة والصناعة، والأهم ألا تكون الضرائب لخنق القطاعات الانتاجية.

الكهرباء وساحات حرب

يؤكد افرام كما تؤكد معظم القطاعات والنقابات، أن البنى التحتية لا تزال تحتاج إلى الكثير من المقومات، فالكهرباء حدث ولا حرج، وتعثرها في هذا الشكل الذي هي فيه، يشكل ضربة قاسية للصناعة، من دون نسيان وضع الطرقات أيضاً.

يضاف إلى ذلك، انه لم نتمكن من استعادة المدن الصناعية التي أنشئت في السبعينيات من القرن العشرين، وقد تحولت إلى ساحات حرب، كما أن النمو السكاني اجتاح هذه المدن، ما أدى إلى تغيير استراتيجي في تكوينها.

"من ذاك الوقت إلى اليوم، لم نفعل شيئا على هذا الصعيد" يقول افرام. في المقابل، نجد أن دول العالم طوّرت من مفهوم المدن الصناعية النموذجية، وسبقتنا كثيراً، لا سيما في الخليج العربي ومصر، مشيرا إلى أن مصر مثلاً، تمكنت من تخفيف الزحمة في عاصمتها، عبر إنشاء مدن صناعية على الأطراف.

ويعتبر أنه بإمكان لبنان أن يحذو حذوها، عبر إنشاء مدن صناعية في المناطق لا تقل مساحتها عن 50 ألف متر مربع، فنعيد توزيع السكان، ونحدّ من الزحمة في بيروت، ونخلق محركاً أساسياً لنمو المناطق.

وإذ يكشف أن الجمعية الآن تدرس إمكانية إنشاء أكثر من مدينة صناعية في المناطق، منها في السلسلة الشرقية، يرى أن المشكلة الأساس لا تكمن في الجغرافيا، بل في العقلية السياسية التي تقارب هذا الموضوع الحيوي، ما يخيف المستثمر، وبالتالي يؤثر سلباً في الاقتصاد الوطني. كما لا يخفي الخسارة الكبيرة التي تكبدها الصناعيون خلال الحرب الأهلية، لعدم تمكنهم من مواكبة الصناعات الحديثة، والثورات التكنولوجية.

الناتج الصناعي 11 مليار دولار

يوضح افرام أن معدل استهلاك السوق المحلي من الإنتاج الصناعي اللبناني حوالى 60 إلى 70 في المئة، مشيرا في هذا الإطار، إلى أن حجم الناتج الصناعي سنويا يقدر بحوالى 11 مليار دولار، يصدر منه حوالى أربعة مليارات دولار..

أما العاملون في القطاع الصناعي فعددهم حوالى 130 ألف عامل من مليون و200 ألف من حجم القوى العاملة المنتجة، وهؤلاء موزعون على حوالى أربعة آلاف مؤسسة صناعية.
ويتوسع في هذه النقطة، موضحا أن 25 في المئة من القوى العاملة في المهن الحرة (محامون، أطباء، مهندسون، رجال أعمال... وغيرهم) و25 في المئة في المهن الحرفية، و25 في المئة في مؤسسات الدولة، وحوالى 20 في المئة عاطلون عن العمل.

يبلغ عدد المنتسبين إلى الجمعية حوالى 700 مؤسسة صناعية، وذلك بسبب الشروط القاسية التي تضعها الجمعية، فمن المواصفات: ألا يقل عدد العاملين في المؤسسة عن 10 عمال، ولديها نمط انتاجي متكرر، فضلا عن تقديمها شهادة صناعية، وإفادة مساحة، وأن تكون الأرض مصنّفة، ومعلومات عن مدى استهلاكها للطاقة، وحجم مبيعاتها، ووفق ذلك، تصنف ضمن فئات.

لكن هناك مشروعا لدى الجمعية، لتعديل شروط الانتساب، بهدف ضم قطاعات جديدة، ومن هذه القطاعات، وفق افرام، صناعة البرامج والتطبيقات (سوفت وير)، والأزياء التي ستحلّ محل صناعة النسيج التي تنقرض.

صادرات 2012 والسلع الأولى

في المقابل، يفيد فرشوخ بأن الصادرات الصناعية بلغت مليارين و952 مليون دولار في 2012، مقابل ثلاثة مليارات و334 مليون دولار في 2011، وثلاثة مليارات و208 ملايين دولار في 2010، موضحا أن الصادرات ارتفعت 3.77 في المئة بين 2010 و2011، وانخفضت 11.5 في المئة بين 2011 و2012.

ويلفت الانتباه إلى أن السلع العشر الأولى، وفق إحصاءات 2012، هي على النحو الآتي: آلات وأجهزة ومعدات كهربائية وميكانيكية (16.2 في المئة)، معادن عادية ومصنوعاتها (15.95 في المئة)، الأغذية الجاهزة (13.29 في المئة)، لؤلؤ وأحجار كريمة وشبه كريمة، معادن ثمينة (من دون الماس الخام، وسبائك الذهب والفضة بشكلها الخام) (13.14 في المئة)، منتجات الصناعات الكيميائية (11.63 في المئة)، الورق والكرتون (6.17 في المئة)، صناعات بلاستيكية (لَدَائِن ومصنوعاتها، مطاط ومصنوعاته) (4.96 في المئة)، منتجات معدنية (4.49 في المئة)، صناعات نسيجية (3.94 في المئة)، ومصنوعات من حجر الجبس (1.47 في المئة).

ويشير إلى أن هناك لغطا حول صادرات المجوهرات، لكن في الإجمال، لا يمكن تصنيفها ضمن الصناعات الوطنية..

ويلحظ أن هناك نشاطا في الصناعات الكيميائية، وتراجعا في صناعة النسيج بعدما كانت في الطليعة، إذ يمكن عدّ مصانعها اليوم على أصابع اليد.

أما الدول العشر الأولى التي تستورد من لبنان، فسبع منها عربية، وهي: السعودية (14.17 في المئة)، الإمارات العربية المتحدة (8.91 في المئة)، سوريا (8.64 في المئة)، العراق (6.67 في المئة)، تركيا (5.22 في المئة)، أفريقيا الجنوبية (4.47 في المئة)، الأردن (4.01 في المئة)، سويسرا (2.19 في المئة)، مصر (2.14 في المئة)، قطر (1.95 في المئة).

ويلفت فرشوخ الانتباه إلى أن صادرات لبنان إلى سوريا زادت حوالى 30 في المئة في العام 2012 مقابل 2011، كما سُجلت زيادة لافتة للانتباه في صادرات الكرتون، لكن هذه النسبة ستتراجع في الفصل الأول من هذا العام بسبب الأزمة الحدودية، وإقفال المعابر البرية في وجه حركة شاحنات التصدير والاستيراد.

تراجع القروض المصرفية

أمام هذا الوضع، يلحظ افرام أن حصة القطاع الصناعي من القروض المصرفية تراجعت عن 11 في المئة، علما أن القروض المصرفية للاقتصاد تقارب 44 مليار دولار، كذلك تراجع معدل التوظيف في القطاع.

لا يتوقف المؤشر السلبي هنا، إذ يؤكد أن القطاع الصناعي لن ينمو في 2013، والسبب «لم تدخل آلات جديدة»، فالصناعيون يترقبون الوضع، بانتظار انقشاع الرؤية، التي تبدو ضبابية في السنتين المقبلتين، في ظل الاضطراب المستمر في الحوار بين الأطراف المعنية.
ويعود افرام بالذاكرة إلى أعوام 2005 حتى 2010، «صحيح كان هناك أوضاع أمنية وسياسية مضطربة، لكن الأمل في المستقبل كان ما زال موجودا، إنما بدءا من العام 2011، باتت الرؤيا غير واضحة، بسبب التغيرات التي تشهدها المنطقة العربية وتفاقم الأزمات، خصوصا الإقليمية منها»، معتبرا أن "فصل الربيع العربي السياسي قابله خريف اقتصادي".
ويقول: «نحن كمستثمرين صناعيين، كانت كل خططنا التوسعية قبل العام 2011، تركّز على منطقة الشرق الأوسط، لأن معادلة المخاطر مقابل المردود كانت ايجابية، أما اليوم فهناك مضاربة على رأس المال، فبعدما كان معدل النمو 4.5 و6 في المئة في لبنان ودول الخليج ومصر، والنمو الصناعي 25 في المئة في منطقة الشرق الأوسط، تراجع كل شيء بدءا من العام 2011، ومعادلة المخاطر على المردود تغيّرت سلباً".

"معنيون بالعدالة الاجتماعية"

انتقالا إلى علاقة القطاع الصناعي بالموضوع الاجتماعي، يلحظ افرام بدايةً، أن هناك تغييرا بنيويا في النظرة الى أن يكون لبنان بلداً صناعياً أو خدماتياً، وعلى الرغم من عدم مواكبة القوانين لهذا التغير الجوهري، يقول: "كصناعيين تهمّنا جداً المسألة الاجتماعية، من نواحيها كافة، ونحن معنيون مثل النقابات بالعدالة الاجتماعية وخلق فرص العمل، وطريقة معالجة غلاء المعيشة".

ويشير إلى أن «الهيئات الاقتصادية» اقرت أخيراً مبدأ غلاء المعيشة وربط ذلك بالتضخم، ومن الضروري البناء على هذا المبدأ كأساس، فالصناعي اللبناني ينتج للمستهلك اللبناني، ومن هنا يريد أن يكون هذا المستهلك مرتاحاً.

وكمراقب اقتصادي، يعتبر افرام أن هناك خطرا جوهريا في حال أقرّت «سلسلة الرتب والرواتب»، لأن مالية الدولة دخلت في المحظور في ظل تفاقم الدين العام، إذ هو يلامس 60 مليار دولار حالياً، وينتظر أن يبلغ 100 مليار دولار في العام 2016.

"النمو مشكلتنا الأساسية"

يعتبر هنا أن «النمو مشكلتنا الأساسية، إذ هل يعقل أننا نستدين لنسدّ قيمة الفوائد؟»، مؤكدا أنه في حال لم ينمُ الاقتصاد 6.5 في المئة سنويا، يعني أن هناك تراجعا في الناتج القومي، ولكي نشهد هذه النسبة من النمو، تجب معالجة البنية التحتية.

وإذ يستدرك ليعلن تأييده إقرار غلاء المعيشة للقطاع العام كما الخاص، يؤكد أن المطلوب قبل ذلك، منع الهدر، ومعالجة العجز المتفاقم، إذ هناك إمكانية لتمويل السلسلة من الكهرباء والمرفأ فقط.

ويدعو في هذا الإطار، مجلس النواب إلى التصديق على قانون تنظيم الكهرباء، والتشركة بين القطاعين العام والخاص، قبل أن يقرّ "السلسلة".

وفي مقاربته واقع القطاع العام، يشير افرام إلى أن "كثيرا من الدول وجدت حلاً لمشكلة القطاع، ومن المعالجات، طرح أسهم المؤسسات العامة للجمهور".

وهنا ينتقد القوانين اللبنانية، التي لا تلحظ ضرورة خلق فرص عمل والتحفيز على ذلك، سائلا: هل من منطق الأمور أن يكون تعامل الدولة نفسه بين من يستثمر مليون دولار من دون أن يخلق فرص عمل، مقابل من يستثمر المبلغ نفسه، ويوظّف 50 شخصا؟، فضلا عن ذلك، لا يوجد هناك محفزات لاستقطاب رؤوس أموال للقطاعات الإنتاجية.

"فئة المجانين الصناعيين"

يستدرك افرام ليقول: «الصناعي ليس غولاً، بل هو في لبنان، مقاوم حقيقي، ولا يستطيع الذهاب إلى أي مكان، لأنه يحفر في هذه الأرض، ويمكن ضمّه أيضا إلى فئة المجانين الصناعيين، إذ هو يحفر في المكان الخطر، فضلا عن الأكلاف الباهظة التي يتكبدها".

ويعقد مقارنة بين العمل الصناعي في لبنان وفي الخارج، مشيرا إلى أنه أخيراً، نقل آلة من آلات معمله إلى مصر، فزاد ربحه 4 و5 مرات، لأن كلفة التشغيل هناك أرخص.
وعلى الرغم من ذلك، لم يفقد افرام الأمل بلبنان، مشيرا إلى أن الجمعية تدرس عددا من المشاريع، منها إنشاء مدن صناعية. ويؤكد هنا أن القطاع توقف عن طلب المساعدة من الدولة والاتكال عليها، والسبب أن "آلية اتخاذ القرارات فيها مشلولة"، مشيرا إلى أن "القطاع الصناعي يعتمد على نفسه، ولم يعد يعول على تدابير الدولة".

 
Contact us