السلامُ على الجمهورية الثانية؟!

ليبانون فايلز- الكلمة اون لاين 

أما وقد تمَ الأمر وعاد إلى الجهورية رأسها بعد شغور كرسيّه لأكثر من سنتين، لا بأس بقراءة هادئة حول وضعية الجمهوريّتيْن الأولى والثانية، وفي عظيم الآمال المعقودة على العهد الجديد.

في الجمهوريةِ الأولى، وضع اللبنانيّون الميثاقَ والصيغةَ في مشروعٍ حضاريٍّ التقوا فيه على ثوابتَ الحُرّية، والعيش المشترك، وحِفظ التعدُّديّة. وكان أن تخلّى بعضُهم عن حُلُمِ الوَحدةِ مع سوريا، مقابلَ قَبولِ بعْضِهم الآخَر بالهُويّة الوطنيّةِ العربيّةِ.

رَغْم ذلك، فَشِلت البلادُ في بناءِ مناعةٍ وطنيّةٍ تُجاهَ المُتغيّراتِ من حولِها، فانفتَحت عليها أبوابُ الجحيم. غرِقَ الكُلّ في ليلِ الحرْبِ وظُلْمتهِ الدامسة. وانفتح الجُرحِ بين اللبنانيّين على صدى تداعياتٍ كثيرة، بعضُها سياسيٌّ محليّ وإقليميّ ودَوليّ، وبعضُها اجتماعيّ واقتصاديّ.

في الجمهوريةِ الثانية، ومع إقرار الإصلاحات الدستورية، ورغم تحرَّر الأرضُ اللبنانيّةُ بعد احتلالٍ إسرائيليٍّ دامَ 22 عاماً، وانسحَاب الجيشُ السوريُّ بعد ثلاثينَ سنة من الوصاية... وإلى تاريخِه، لم يَنجح اللبنانيّون في بناء وطنٍ يليقُ بهِم، يجسِّدُ تلك التجربةَ الإنسانيّةَ الفريدةَ لجماعاتِه، في الغِنى ضِمن التعدُّدِ والوَحدةِ في التنوُّع.

إن في التدني الذي وصلت إليه حياة الانسان في لبنان وعلى شتى الأصعدة، الدليل الذي يؤكد إننا لم نعرِف كيف نحصّن وطننا ونحفظ مصالحَهُ واقتصادَه. كما يؤكّد ذلك تقصيرنا في مجال تمتين وتجديد عقدنا الوطنيّ، لتكون تَرجَمتُه تطويراً لحياة المواطنين وتحقيقاً لرَفاهيّتِهم وسعادَتِهم.

من ناحية أخرى، وبالرغم من هذا الأداء العاطل، لا يجوز أبداً إنكار كيف وضَعَ اتفاقُ الطائف حدًّاً لدورةِ عُنف طويلة عصَفت بالوطن. فمن خلال دستور الجمهورية الثانية، استبقنا ما يسمى بالربيع العربي، المرسوم بالدمع والدم والمآسي، حين حافظنا على قدر عال من الاستقرار وسط زلزال مدمّر يصيب سوريا والعراق ويمرّ باليمن ويصل إلى ليبيا، وتتأثر به المنطقة كاملة لا بل العالم أجمع.

لقد استطاع اتفاق الطائف استيعابَ صِراعات الشارع إلى حدٍّ كبير، لكنه نقلها تجاذُباتٍ داخلَ المؤسساتِ والإدارات العامّة، وشللاً وتعطيلا للحياة الدستورية والوطنية. وصحيح اننا نجحنا في إعادة توزيع السلطة وفي تثبيت ميثاق العيش معاً والسلم الأهلي، لكننا تأخرنا في الاعتراف ان كل ذلك أتى على حساب الانتاجية. فقد وصلت مؤشراتنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة إلى الحضيض. بنانا التحتية انهارت وقدراتنا الذاتية تراجعت بشكل دراماتيكي.

لقد أضعنا الفرصة التي أتاحتها أمامنا ظروف ومفترقات تاريخية، في سبيل الجنوح بعقدنا الوطني نحو لبنان أفضل ومنتج. وها أننا نواجه إشكاليات دستورية ومشاكل اجتماعية واقتصادية وبيئية جمّة، كان من الأسهل حلّها لو تداركنا الأمر منذ العام 2005. بنانا التحتية تنهار أمام أعيننا. النفايات تعمّ الطرقات. زحمة سير خانقة تحيط بالأمكنة. وثروتنا المائية تهدر، والنفطية نتأخر في استثمارها... وفي النتيجة، لم ننجح في تجسيد الطموح إلى لبنانٍ مجدَّدٍ، لأن المعالجات كانت تتجسد باللاقرار.

طبعاً، الميثاقية هي أكثر من مطلوبة وجوهرية. لكن برأيي، لم يعد ميثاق العيش المشترك كافياً، بل يتوجبّ التجديد فيه والتطوير عليه من أجل عيشٍ مشتركٍ منتجٍ بدلاً من عيشٍ مشتركٍ عقيم. فالعيش المشترك المنتج هو الميثاق الجديد الذي كان مطلوباً حينها ويبقى مطلوباً بإلحاح اليوم.

أكثر، إن المشاكلَ الجمّة التي تُواجهُ المواطنَ في كلِّ يوم وما يَطبَعُها من مُعاناةٍ شاقّة، إنما تَنتُج مِن جَرّاء خللٍ في النظامِ التشغيليّ للمنظومةِ اللبنانية وتطويعه لمصالح خاصة. إضافة، لقد تحاشينا عملية استخلاص العبر وامتنعنا عن سدّ بعض الثغرات الدستورية، التي أظهرت التجارب المعاشة أحقيّة وضرورة معالجتها.

عسى لا نضيّع اليوم أيضاً الفرصة الواعدة لبناء لبنانٍ مجدَّدٍ، أفضل ومنتج، مع انتخاب فخامة الرئيس العماد ميشال عون، وكل فرصة هي مسؤولية. إنه بإسم الإنتاجيّة والفعاليّة، نستطيع تطوير دستورنا دون المس بروحية اتفاق الطائف وتوازناته. وبإسم الإنتاجيّة والفعاليّة، نضع قانوناً انتخابياً قادر على التجديد في الطاقات وتظهير أفضل ما يكتنز لدى شعبنا. وبإسم الإنتاجيّة والفعاليّة، نسير باللامركزية. وبإسم الإنتاجيّة والفعاليّة، نحققّ نموّاً اقتصاديّاً وعدالة اجتماعيّة. وفي المحصّلة، لا مبرِّر لأيّ عمَلٍ سياسيٍّ إذا لم يكن هدفُه النهائي تطويرَ حياةِ الإنسان وحمايةَ الضعيف والفقير.

ختاماً، إن بين الشلل والفشل فارق كبير. نحن لسنا بحاجة إلى انقلاب أو ثورة. إننا بحاجة إلى نفس انتاجي يكلّل ميثاقنا ويطبع نظامنا التشغيلي من داخل وثيقة الوفاق الوطني وعلى أساسها. وهذا النفس الإنتاجي هو القادر على إدخالنا في زمن تطويريّ وتجديديّ للجمهورية الثانية. هذا ما يطمح إليه الرئيس الجديد ومعه كثر من المخلصين. وهذا ما يفترض بالجميع وضع اليد في اليد لمواكبة زمن جديد ومختلف.

وعندها، فلنسمّ هذا النفس الإنتاجي جمهورية ثالثة إذا شاء البعض. وخارجه، لا جمهورية ثالثة ولا رابعة أو خامسة قادرة على إصلاح ما أفسده الدهر. إنه خارج هذا النفس الإنتاجي، ستبقى اللعنةُ تُواكبُنا من جيلٍ إلى جيل، ومن جمهورية إلى أخرى.

 

Contact us